الهروب الكبير


قصة الكر والفر من الشرطة المكسيكية

أحداث المدونة أدناه حصلت في شهر يونيو لعام ٢٠١٩ ميلادي.

في نهاية المدونة يوجد مقطع مصوّر لبعض اللقطات من الدرون أثناء المطاردة.


مقدمة

مضى على دخولي إلى المكسيك عدة أشهر، وها أنا الان في الجزء الجنوبي والأخير من المكسيك، حيث تبقت في تأشيرتي خمسة أسابيع فقط من المدة المسموح لي بها بالبقاء في المكسيك، والتي كانت ستة أشهر؛ وذلك بعدما دخلتها في شهر يناير لعام ٢٠١٩ من أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد من مدينة “سان دييغو” جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية إلى مدينة “تيخوانا” شمال غرب المكسيك.


قطعت فيها ما يزيد عن العشرة آلاف كيلو مترًا داخل أراضي المكسيك متنقلًا فقط بإستخدام التأشير بيدي للمركبات المارة في الشوارع -هيتشهايكنق-، ممضيًا بذلك ما يزيد عن المائة والخمسين ساعة في مركبات غرباء لا يتحدثون إلا اللغة الأسبانية، مما أضطرني إلى تعلم اللغة عن طريق المحادثة معهم.


في صباح السادس من يونيو خرجت بصحبة صديقتي إيميلي من مدينة كويرناڤاكا في ولاية موريلوس متجهًا نحو وجهتي القادمة، مدينة واهاكا (Oaxaca City) في ولاية واهاكا في جنوب المكسيك، حيث أمضينا قرابة العشر ساعات في الطريق. وصلنا في الليل بعد يوم طويل منهكين وجائعين، نبحث عن سكن نحط به رحالنا ومطعم نسد به جوعنا. بعد بحث سريع في هاتفي النقال وجدت أحد بيوت الشباب -الهوستل- قريب مننا وسعره مناسب، وفي طريقنا إليه توقفنا للأكل في مطعم يبيع أحد أشهر الأطباق الواهاكية، التلايودا.


لقد سمعت الكثير عن جمال واهاكا وأكلها اللذيذ وسكانها ذو الأصول الممتدة من قبائل المايا القديمة، أو كما يعرفهم البعض بالهنود الحمر. في اليوم التالي بدأت أتسكع في شوارعها وأزور أسواقها الشعبية متعرفًا على أكلاتهم وأسلوب حياتهم بشكل عام، محاولًا فهم وتفسير كل ما أراه. أثناء تجولي في الشوارع برفقة إيميلي بدأنا بتجاذب أطراف الحديث مع بعض السكان المحليين، دائمًا ما أتلقى نفس ردة الفعل عندما يعرف الشخص المقابل لي بأنني من السعودية؛ “أنت أول شخص أقابله من السعودية، كيف الحياة هناك؟”.


كانت هناك عدة أماكن بالقرب من مدينة واهاكا سمعنا بها مرات عديدة وأنها أحد الأشياء التي ”يجب زيارتها” قبل خروجك من مدينة واهاكا، لكن كان أبرزها مكانين بالتحديد؛

المكان الأول اسمه ييرڤي إل أقوا (Hierve El Agua) -أي غلي الماء-، وكان عبارة عن أحجار متشكلة طبيعيًا مليئة بالمعادن الطبيعية مكوّنةً شكل شلال منهمر لكنه بدون ماء، المكان جدًا جميل وبه بركات طبيعية ومطلات للإستمتاع بالوادي العظيم في أسفل المكان.

أما المكان الثاني كان جبل ألبان (Monte Alban)، ما يميزه هو وجود بعض أهرامات الحضارات القديمة -ما قبل الإستعمار الأسباني.


مع خبرتي في السفر أيقنت أنني أُفضل الانخراط مع السكان المحليين والاستماع إلى أحاديثهم ومعرفة تفاصيل حياتهم أكثر من زيارة الأماكن الطبيعية والسياحية أو حتى المتاحف؛ لماذا أحاول فهم تاريخ أناس قد مضوا واترك من هم هنا ويعيشون في عالمي الان. لكنني لا أمانع زيارة مكان سياحي أو متحف بين الفينة والأخرى، مع العلم بأنني مؤمن بأن زيارة هرم واحد فقط في المكسيك يغنيني عن زيارة باقيها.


لقد قمت بالفعل بزيارة أحد الأهرامات مسبقًا في مدينة أخرى، لكن هذه المرة قلت لنفسي بما أن هذه الأهرامات ليست مشهوره ولا يوجد بها الكثير من السياح، سأقوم بتصويرها بإستخدام الدرون -الطائرة بدون طيار- ومحاولة رؤية الأهرامات من زاوية مختلفة ريثما تنتهي إيميلي من التجول بها.


قصة جانبية قصيرة:

في المكسيك استخدام الدرون ممنوع بدون الحصول على تصريح.


في شهر مايو عندما كنت في ميكسيكو سيتي -العاصمة- ذهبت إلى مكتب الشرطة الفيدرالية لاستخراج تصريح لتطيير الدرون، بعدما ملئت الاستمارات المطلوبة وأنهيت جميع المتطلبات توجهت إلى النافذة مقدمًا أوراقي إلى العسكري الموجود، عندها طلب مني إرفاق نسخة من هويتي الوطنية المكسيكية مع الطلب حتى يتم ربط الطلب بهويتي المكسيكية. كانت هناك مشكلة صغيرة، لست مكسيكي ولا أحمل هوية وطنية مكسيكية معي. أخبرته بهذا لكنه قال لي إذًا لا يمكنك إصدار تصريح لتطيير الدرون، وإن فعلت وقمت بهذا الفعل الشنيع سيتم تغريمك ما يعادل عشرة ألاف دولارًا أمريكيًا. بعبارة أخرى، ليس مسموح للأجنبي بتطيير الطائرات بدون طيار.


نهاية القصة؛ لا أحمل تصريح لتطيير الدرون، لكن الشرطة المكسيكية ليست معروفة بصرامتها -أو ذكائها-، لذا لم آبه كثيرًا.


جبل ألبان كان يبعد عن الهوستل قرابة النصف ساعة بالسيارة، أو خمسة وأربعين دقيقة بإستخدام الباص، أو ساعتين مشيًا. بحكم بأنني شخص أفضل المشي ما دام ممكنًا، قررت الذهاب مشيًا برفقة إيميلي والتي لم تتردد بالمشي معي، قاطعين بذلك قريتين وبعض الحقول حتى نتمكن للوصول إلى قمة الجبل والوصول إلى مدخل المحمية؛ وذلك على إرتفاع ٤٠٠ متر عن باقي المدينة و ١،٩٤٠ متر عن سطح البحر.


في اليوم التالي، الثامن من يونيو الموافق يوم السبت، بعدما انتهى شحن بطارية الدرون وضبت حقيبة ظهري الصغيرة؛ وضعت بها حقيبة الحماية الخاصة بالدرون وجهاز التحكم عن بعد، وشاحن جوالي المتنقل، بالإضافة إلى بعض النقد وقارورة الماء الشهيرة الخاصة بي -والتي تتميز بوجود مصفاة داخلها تصفي جميع أنواع المياه وتجعلها نقية وصالحة للشرب. أنا الآن جاهز للانطلاق إلى هذا الجبل العظيم، فقط تبقى ألبس ملابسي -قميصي الجديد، وحذائي الخاص بالتسلق (Boots)، وبنطالي القصير (Shorts) - وبعدها أتناول فطوري المجاني المصاحب لحجزي في الهوستل.


حوالي العاشرة صباحًا خرجنا من الهوستل وبدأنا المشي متبعين الخريطة في هاتفي النقال؛ مررنا بمناطق جديدة لما أزرها بالأمس، بعضها سكني وبعضها صناعي وبعضها البيوت فيها يكاد يطلق عليها بيوت من شد خرابها. لمدة ساعة وربع كان الطريق بين القرى والبناء بشكل عام، وبعدها انتهى البنيان وبدأنا المشي في الحقول الزراعية وبين الأشجار. لاحظت أن هاتفي النقال يقول لي بأن هنالك شارع بجانبي بينما في الحقيقة لا يوجد أي شيء بجانبي، لا شيء. بدأت بالقلق قليلًا ثم قررت إتباع الاتجاهات الأساسية، فقط علي الاتجاه نحو الجنوب الغربي وسأصل للجبل. بعد نصف ساعة وصلت إلى شارع نهايته مدخل المحمية، بدأنا بالمشي وبعد دقيقتين مرت سيارة وتوقفت لنا لتوصيلنا معهم إلى مدخل المحمية لزيارة الأهرامات.


قرابة الثانية عشرة ظهرًا وصلنا إلى شباك التذاكر وبدأت قراءة الأسعار، السعر للزائر الأجنبي -مثل محدثكم- كان سبعين دولار أمريكي بالمقابل خمسة دولارات للمكسيكي. نرفزتني الأسعار، لطالما كرهت تعيين أسعار مختلفة لأصحاب الجنسية المحلية وأخرى للجنسيات الأجنبية. رفضت الدفع وقلت لإيميلي أدخلي أنتِ وسأتجول أنا بالخارج وسأطيّر الدرون من هنا. كانت المحمية والموقع الأثري هذا تابع للمعهد الوطني المكسيكي للأنثروبولوجيا والتاريخ، لم آبه لهذه المعلومة وبدأت بالتجول في الخارج.


وصلت إلى مكان قريب من مواقف السيارات، كان به بعض اثار أحد الأهرامات الصغيرة، لم يكن مُسوّر ولم يكن هناك أي نوع من أنواع الحراسات الأمنية؛ فقلت في نفسي فرصة أن أرى ماذا تفرق هذه الأهرامات عن سابقاتها، فكانت النتيجة نفسها، مجرد كومة أحجار صُفصِفت بطريقة معينة. لاحظت عندها أن هناك مكان في خلف بقايا الهرم، مطل على سفح الجبل وبه أشجار كثيرة تساعد على الاختباء، ويمر به طريق ترابي موازي للشارع وقد يكون مناسب للرجوع إلى المدينة بدون الحاجة إلى استخدام الشارع، هذا هو مكاني المناسب لتطيير الدرون.


تلفتُّ يمنة ويسرة ولم يكن هناك أحد حولي، سميت بسم الله ووضعت حقيبة ظهري على أحد الحجارة بين الأشجار وأخرجت حقيبة الدرون وبدأت بتجهيزها للطيران. هاتفي النقال تم توصيله بجهاز التحكم عن بعد، تم فحص الدرون ومعايرتها للطيران. مشيت قليلًا بإتجاه سفح الجبل مبتعدًا عن الأشجار فاتحًا المجال للدرون حتى تطير دون عوائق.


أحد ما يميز الدرون هو ضعف بطاريتها والتي تسمح لها بالطيران لمدة لا تتجاوز الثلث ساعة فقط بالإضافة إلى صوت مراوحها المزعجة والمسموعة على بعد مئات المترات، وصدف بأن هذا اليوم كان ذو سماء صافية جدًا ولم يكن هناك نسمة هواء؛ فصوت الدرون الآن يُسمع من مجال أبعد. تبًا!


أقلعت الدرون وبدأت بالتحليق على ارتفاع مترين من نقطة الإقلاع، تاركةً التحكم لي. قررت أن أرفعها حتى أقصى إرتفاع متاح لي ومن ثم التوجه بها إلى الأهرامات داخل المحمية، بدأت دقات قلبي ترتفع مع كل متر ترتفعه الدرون. مرت دقيقتين حتى وصلت الدرون إلى ارتفاع ٣٠٠ متر من نقطة الإقلاع، والصوت ما زال مسموع. توجهت بها إلى المحمية وبدأت أحاوطها محاولًا التقاط بعض الصور والفيديوهات لهذه الأهرامات العجيبة.


مرت بضع دقائق ودقات قلبي لم تهدأ ولم تسكن، الدرون ما زالت على ارتفاع ٣٠٠ متر، لم أستطع التقاط لقطات جميلة دون الاقتراب من الأهرامات. فكرت لوهلة ثم قلت سأقربها قليلًا لعل كل هذا الخوف ينتج بصور جميلة، لكن بمجرد ما أنزلتها إلى ٢٠٠ متر رأيت بعض الأشخاص يأشرون على الدرون. تبًا، ستعرف الشرطة الآن! بدأت بإرجاع الدرون إلي متأملًا عدم حصول أي شيء.


ما أن إقتربت الدرون إلي وبدأت بإنزالها ركضت بإتجاه حقيبتي لأخذها من على الحجر، بدأت بوضع أغراضي بداخل شنطتي بيدي اليسار وبيدي اليمين أحمل جهاز التحكم عن بعد وبوسطه هاتفي النقال. فجأة وصلتني رسالة نصية من صديقتي إيميلي مفادها يقول “أركض! أنهم قادمين باتجاهك”، هلعت وبدأت برفع الدرون حتى لا تفضح مكاني وبدأت بالركض بإتجاه الأشجار بمحاذاة الجرف المؤدي إلى سفح الجبل. لم أغلق شنطتي جيدًا ولم ألبسها جيدًا وها أنا أركض الآن شاقًا طريقي بين الأشجار بإستخدام يدي اليسار وحاملًا جهاز التحكم عن بعد بيدي اليمين. دقات قلبي وصلت أعلى حد يمكن قلبي وصوله.


بعد الركض كالمجنون لعدة مترات توقفت قليلًا لأغلق شنطتي، وبعدها أكملت الركض كما لم أركض من قبل؛ فغصون الأشجار تضربني من كل حدب وصوب وأنا أحاول أشق طريقي مبعدها عن وجهي، راكضًا على أرض غير مستوية، ومحاولًا تسيير الدرون بإتجاه يسهل علي إنزالها لاحقًا. لحسن حظي فأنا قد لبست حذاء التسلق، لكن للأسف حتى مع هذا الحذاء فرجلي ما زالت غير ثابتة للركض في مثل هذه الأرض.


ظننت بأنني ابتعدت لمسافة كافية عن مكاني الأول، والآن بإمكاني إنزالها بسلام. لكن ما أن بدأت بتوجيهها نحوي حتى رأيت في الشاشة أن هناك سيارة شرطة في طريقها إلى بقايا الهرم الصغير وبدأت بتنزيل بعض أفراد الشرطة على الطريق الترابي الذي كنت أنوي الهروب معه، بالإضافة إلى وجود شرطي آخر خلفي قرب الجرف، لكن لا أظن أنه قد رآني بعد. توقفت للحظة وقررت توجيه الدرون نحو سيارة الشرطة لمعرفة أماكنهم وخداع الشرطي خلفي حتى يلحقها ويتراجع عني، لكن ما أن بدأت بتوجيهها نحو الاتجاه الآخر بدأ جهاز التحكم عن بعد بإصدار صوت إنخفاض مستوى البطارية؛ فاضحًا مكاني ومعلنه للشرطي خلفي جاعلني دون خيار آخر غير الوقوف وانتظار الدرون حتى تهبط، فقد عرف مكاني بالفعل وأنا لا أريد أنا أفقد الدرون بعد.


فمي جاف تمامًا، دقات قلبي في أعلى مستوياتها، غدتي الكظرية أنتجت هرمون الأدرينالين وبدأ جسمي يتهيأ لحالة الكر والفر؛ إما النفاد بجلدي بطريقةٍ ما أو الوقوع بقبضة الشرطة الفيدرالية المكسيكية، والتي اكتشفت فيما بعد بأن تطيير الدرون في المحميات التابعة للمعهد الوطني المكسيكي للأنثروبولوجيا والتاريخ تعتبر جريمة أسجن عليها، حيث أن هذه المحميات إرث وطني وتطيير الدرون وتصويرها يُعتبر سرقة لهذا الإرث الوطني.


ها أنا أرى الدرون بدأت بالاقتراب مني، وبدأت اسمع الشرطي يركض بإتجاهي ومناديني بأعلى صوته يأمرني بأن أقف وأسلم نفسي. هي لحظات مرت منذ نداؤه لي حتى هبوط الدرون على يدي، لكنها مرت وكأنها أيام؛ خلالها فكرت فيما سيحدث لي وكيف يجب أن أخرج نفسي من هذه الورطة وأي الطرق يجب أن أسلك، كلها أسئلة لم أجد لأيٍ منها إجابة.


هبطت الدرون في يدي ولم تمر أجزاء من اللحظة حتى بدأت بالركض نحو الأشجار المحاذية للجرف، ممسكًا بيدي اليمين الدرون وبيدي اليسار جهاز التحكم عن بعد وهاتفي النقال، آملًا بأن أجد مخرجًا يخرجني من المكان المنحوس هذا. بدأت أغصان الأشجار تضرب جسمي، بعضها شق بنطالي وبعضها جرح جسمي بأنحاء مختلفة. بدأت أسمع أصوات أفراد الشرطة تكثر، هم الآن على الأقل ثلاثة أشخاص، ليس هناك وقت للالتفات ومعرفة أماكنهم، لن أصبح الغزال الذي أكله الأسد بسبب التفاتته. أكاد أجزم أن سرعة ركضي في هذاك اليوم تجاوزت سرعة يوسين بولت؛ ركضت كما أن حياتي تعتمد على ذلك.


لحسن الحظ الجزء الأول من المطاردة تم تصويره من قِبَل الدرون أثناء محاولتي تهبيطها، الفيديو في الأسفل سيعطيك تصور أفضل للمطاردة.


ركضت وسقطت عدة مرات وفي كل مرة أُكمل ركضي أسرع من ذي قبل، حتى بدأ أسفل حذائي بالانسلاخ معرقلًا ركضي جاعلًا إياه أصعب مع كل خطوة. ركضت عدة أمتار حتى عرقلتني جذور شجرة وسقطت نحو الجرف، بطريقةٍ ما سقطت على مؤخرتي وبدأت بالتزحلق نحو سفح الجبل، لكن لحسن حظي ولطف ربي بي تزحلقت قليلًا حتى أوقفتني أحد الشجيرات، وكأني واقفًا عليها ومستندًا على الجبل بظهري بزاوية تقارب السبعين درجة. ما أن التقطت أنفاسي لثانية واستوعبت مكاني الذي لا أحسد عليه، حتى وجدت نفسي أمام خيارين؛ إما أن أحاول الخروج من مكاني مع إحتمالية عالية جدًا من رؤية أفراد الشرطة لي، أو أن أبقى ساكنًا في مكاني آملًا ألا يروني وهم يبحثون معي.


مرت الثواني سريعًا وأنا أحاول أن أفكر بطريقة عقلانية، حتى قررت بعدها بأن أفضل خيار لي للخروج من هذا المأزق هو التزامي مكاني (وأنت التزامك بيتك حتى إنتهاء أزمة كورونا). جلست ساكنًا ضامًا ذراعَيْ نحو صدري حاملًا الدرون وجهاز التحكم عن بعد وهاتفي النقال ومستندًا على حقيبة ظهري، وما أن بدأت محاولة استيعاب المكان من حولي حتى بدأت أصوات أفراد الشرطة تكثر من حولي، تبًا لقد أصبحوا ستة أفراد وبدأوا بالاقتراب مني. أخرجت هاتفي النقال من جهاز التحكم عن بعد وتأكدت من أن جميع إعدادات الجهاز مصمتة، فأنا لا أريد أن تفضح مكاني رسالة واتساب أو إيميل دعائي. أخذت دقيقتين من التنفس العميق؛ استحضرت فيه عقلي، هدأت من روعي، وأخبرت نفسي بأن الخوف الان ليس هو الحل. كانت هناك جميع أنواع الحشرات، التي أعرفها والتي لا أعرفها، تدب على جسمي، حتى أن عدد من السحالي بدأن بالمشي علي -في أوقات مختلفة- لكني لم أستطع أن أفعل أي شيء لإخافتهن.


كانت الساعة في هذا الوقت تشير إلى الواحدة ظهرًا، أرسلت لصديقتي إيميلي بأنني مختبئ بين الشجيرات على جرف الجبل المطل على سفحه لكن كل شيء بخير حتى هذه اللحظة، طمأنتها وقلت لها بأن ترجع إلى المدينة لوحدها، حتى لا يستوعبوا بأننا أتينا مع بعض فيلقوا القبض عليها ويستخدمونها كورقة للضغط علي للخروج من مخبأي. بالبداية رفضت الفكرة لكنها لاحقًا استوعبت بأنها أفضل حل متاح حاليًا.


خلال انتظاري بين الشجيرات ومراسلتي إيميلي، ما زلت اسمع أفراد الشرطة يبحثون عني ويطلقون علي ألقاب بشعة. أحسست أنه يجب أن أرسل رقم أخي فيصل ورقم السفارة السعودية إلى إيميلي وأخبرتها في حالة أصبحت الساعة الخامسة عصرًا ولم أرسل لها أي رسالة بأن تبلغهم بالذي حصل، بدأت إيميلي بالهلع وأنه يجب أن أخرج من هناك، أصبحت أنا من يهدئ من روعها وأنا الشخص المختبئ والشرطة حولي في كل مكان ويجب أن أهلع، وليس هي!


قررت الاختباء على الأقل لمدة ساعة قبل أن حتى أخرج رأسي لأرى المكان. بدأ الوقت يمضي وبدأت أنا بتصفح الإنترنت ومحاولة إلهاء نفسي بمراسلة أصدقائي، العطش كان يقتلني لكني لا أستطيع أن أمد يدي إلى شنطة ظهري وأخرج قارورة الماء. الشرطة بدأوا يطوقوا المكان، بدأوا بتمشيط هذه الرقعة، هي مجرد دقائق حتى يجدوني. فجأة سمعت خطوات رجلين بالقرب من رأسي، لا تبعد عنه سوى سنتيمترات قليلة، بدأت بالخوف واتخذت نصيحة “اعمل نفسك نائم” ملجأً لي، فأغمضت عيني ودعوت ربي بأن لا يجدوني، فإن فعلوا فالشكوى له. نادى أحدهم الشرطي الواقف فوق رأسي بصوتٍ عالٍ وقال “وجدنا العاهر!!”، تبًا وجدوني! أغمضت عيني منتظرًا أن يسحبوني من قميصي، لكن مرت عدة دقائق ولم يأتي أحد. بدأت تتوارى الأصوات وتبتعد حتى رأيت إثنين منهم قد وصلوا أسفلي وبدأوا بتمشيط المكان هناك، لو أمعنوا في النظر في شجيرتي لوجدوني؛ سحبت ببطئ شديد بعضًا من أغصان الشجيرة التي قمت بكسرها عندما سقطت وغطيت نفسي بها، مضيفًا بعضًا من التخفي إلي آملًا بأن تمر هذه المحنة بسلام.


الوقت يمضي وأفراد الشرطة بدأوا بالضجر، أسمعهم يتأففون من درجة حرارة الشمس، والتي كانت ساطعة مباشرة على وجهي طيلة الوقت -لكني لم أتأفف مثلهم-، أسمعهم يتكلمون عن شغلهم الطويل وكيف أن أجرهم قليل؛ كلما مر الوقت كلما ابتعدت الأصوات أكثر فأكثر.


مرت الآن خمسة وأربعين دقيقة على اختبائي في الشجيرة تحت أشعة الشمس الحارقة، ولا أسمع حسًا لأفراد الشرطة من حولي، قلت في نفسي “يبدو أنهم رحلوا أخيرًا” لكن قررت البقاء نصف ساعة إضافية، فقد تكون هذه حيلة من قِبَل الشرطة لإخراجي من مخبأي، لكن هيهات هيهات فلن تنطلي علي خدع الأطفال هذه.


هنالك مناطق كثيرة في جسمي تحكني وهناك الكثير من الحشرات حولي وفمي جاف والعطش يقتلني، لكن حركة يداي للأسف محدودة ولا أستطيع أن أفعل أي شيء. تحاملت على نفسي الدقائق المتبقية، ووعدت نفسي بجرعة كبيرة من الماء بعد خروجي من مخبأي. نظرت إلى الساعة في هاتفي النقال، أصبحت قرابة الثانية والربع، أعتقد آن الأوان لأن أخرج من مخبأي. لكن قبل أن أخرج اعتصرت مخي محاولًا تذكر اللقطات من الدرون والمخارج الممكنة التي قد أستطيع سلكها دون أن يروني الشرطة. قررت بأن الطريق الترابي -المهرب الأصلي- غير صالح وسيكون به شرطي أو إثنان على الأقل، الشارع الرئيسي طبعًا لا، لم يتبقى لي خيار آخر سوى المشي بمحاذاة الجرف رويدًا رويدًا على أمل أن لا يراني أحد.


بعد مرور ساعة وربع من الاختباء أخرجت رأسي والتفت يمنة ويسرة، ولحسن الحظ لم يكن هناك أحد. بدأت بالتسلق على جذور وأغصان الشجيرات من حولي حتى أقف على الأرض مستويًا، بدأت بالنظر إلى ملابسي وإذا كلها مليئة بالطين وبنطالي قد تمزق من جهة الفخذ الأيمن، خلعت قميصي المرسوم عليه برسوم ملونة وقلبت داخله خارجه ولبسته بالمقلوب حتى يكون أبيض سادة. أدخلت الدرون وجهاز التحكم عن بعد إلى مكانيهما في الشنطة وبدأت بالبحث عن قارورة الماء، فأنا سأموت من العطش. تبًا لقد سقطت من شنطتي أثناء ركضي! هذا ما وجدوه أفراد الشرطة عندما قالوا “وجدنا العاهر!!”، كانوا يقصدون القارورة ولا يقصدونني، الحمدلله هذا مطمئن؛ كنت سأزعل لو قصدوني. نصف نعل حذائي الأيمن قد انسلخ لكنه ما زال يعرقلني، مما اضطرني إلى قطعه بيدي. تفحصت جسمي ولم يكن هناك سوى بعض الخدوش السطحية من أغصان الشجر الذي شققت طريقي من خلاله.


وضعت خطة تقريبية لرجوعي إلى الهوستل، فقط تبقى أن أنفذها دون أن يتم القبض علي. بدأت بالمشي بمحاذاة الجرف شاقًا طريقي بين الشجيرات وأغصانها، محاولًا تقليل فرصة خروج أي صوت قد يدل على مكاني. قطعت مسافة تتجاوز الكيلومتر مُتَّبعًا هذا الأسلوب، حتى وصلت إلى نقطة لا أستطيع المشي بمحاذاة الجرف دون ألا يراني أحد من الطريق الترابي الموازي، لذلك قررت أن أمشي ما تبقى من الطريق في الطريق الترابي، حتى أصل إلى الشارع وأقطعه نحو الحقول الزراعية.


بعد وصولي لنهاية الطريق الترابي وقفت لعدد من الثواني قبل قطعي للشارع نحو الحقول الزراعية للتأكد من خلوه، بعدها قطعته وبدأت بالمشي نحو القرى الفقيرة. في طريقي قابلت فتاة أجنبية متجهة نحو جبل ألبان وقد اتبعت نفس طريقي في الذهاب، توقفت وسألتني لتتأكد من طريقها، أجبتها بالإيجاب وأضفت ضاحكًا بأنها يجب أن لا تفعل أي شيء مخالف للقانون. طلبت منها أن تعطيني بعضًا من الماء الذي معها، وبعدما شربت وارتويت قلت لها مفاد القصة باختصار وأخبرتها في حالة أنهم سألوها عني بأن تقول أنها لم ترني.


واصلت طريقي، متوقفًا عند أحد المحلات لشراء قارورة ماء كبيرة باردة، فأنا أستحقها. في طريقي بين القرى كلما رأيت سيارة شرطة خفت قليلًا لكن هذه شرطة الولاية وليست فيدرالية، لست مجرمًا حتى يتناقلوا البلاغ عني بهذه السرعة. وصلت الهوستل قرابة الساعة الرابعة و النصف، استلقيت على فراشي وأنا أتنهد حالفًا أن لا أُطيِّر هذه الدرون اللعينة مرة أخرى. لكن كلنا نعرف بأني لا أستطيع التوقف عن تطييرها.